يعد تاريخ 29 فبراير 2024، ومن دون أدنى ذرة من المبالغة، واحداً من أحط الأيام في تاريخ البشرية؛ فتحت قصف البرد القارص احتشد الآلاف من سكان شمال قطاع غزة الذين أثخنهم الجوع والمذابح على مدار أسابيع على مرأى ومسمع وتواطؤ من العالم قريبه قبل بعيده، احتشدوا في دوار النابلسي الذي يمثل المدخل الجنوبي إلى الأجزاء الغربية من مدينة غزة، بعد أن سرت إشاعات عن قرب وصول بعض شاحنات المساعدات التي تحمل الدقيق -الطحين بلغة أهل غزة- الذي حُرِموا منه عمدً لأسابيع طويلة في شمال القطاع المحاصر بشكل تام، لإجبار سكانه ومقاوميه على الاستسلام وقبول التهجير جنوباً.
ظهرت أول شاحنات المساعدات، فاندفع المئات من المتجمهرين صوبها للحصول على الطحين، وإذ فجأة تنفتح أبواب الجحيم، وتطلق الدبابات الإسرائيلية القريبة المئات من طلقاتها صوب المدنيين الجائعين، ليسقط قرابة الألف منهم بين قتيل وجريح. كانت هذه هي مجزرة الطحين البشعة، واحدة من أبشع جرائم حرب الإبادة ضد غزة 2023-2024.
الآن بعد نحو عشرة أشهر من تلك الحرب المدمرة، ورغم الانفراجة المحدودة في الكارثة الإنسانية بفعل الضغوط الدولية المتصاعدة، وانفضاح حجم المجاعة في غزة، لا يزال العدو يتعنت في إيصال المساعدات والطعام بالقدر المطلوب إلى مناطق قطاع غزة كافة، لا سيما الشمال، وساءت الأمور كثيراً مع اجتياح العدو لرفح ابتداء من مايو 2024، واحتلاله معبر رفح، وهكذا لا يزال التجويع أحد أبرز الأسلحة المشهرة لإذلال ولكسر إرادة أهل غزة وتأليبهم على المقاومة، وجاءت مشاهد إلقاء صناديق المساعدات الهزيلة بالمظلات فوق رؤوس عشرات الآلاف من الجائعين لتكمل مشهد الإذلال والتركيع.
يخبرنا تاريخ الشرق الأوسط المؤلم، أن هذه ليست المرة الأولى، ولا تبدو الأخيرة، لاستخدام سلاح التجويع من قبل أعداء الفلسطينيين على اختلاف مشاربهم لكسر إرادة الفلسطينيين وإخضاعهم، بعد العجز عن هزيمتهم في ساحة القتال.
شهدت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1991) فصولاً مروعة من جرائم الحرب، كان للمخيمات الفلسطينية في لبنان نصيبًا وافرًا منها. في تلك الحرب، كان هناك خُصماء متحاربون أسالوا دماء بعضهم بعضاً كإسرائيل ونظام الأسد السوري، والميليشيات الطائفية المارونية اللبنانية، وحركة أمل الشيعية. لم يجمع بينهم سوى حصار مخيمات الفلسطينيين وتجويعها في مراحل مختلفة من تلك الحرب ولحسابات سياسية وميدانية وطائفية متباينة.
في عام 1976، وبعد قرابة العام من اندلاع تلك الحرب، كان تحالف قوات منظمة التحرير الفلسطينية مع القوى الوطنية اليسارية والقومية اللبنانية على وشك تحقيق انتصار كاسح في الحرب ضد الميليشيات المارونية، وحاصرها بشكل كبير في الجزء الشرقي من بيروت، وهنا تدخلت القوات السورية بضوء أخضر أمريكي وعدم ممانعة من إسرائيل لإعادة التوازن بين المتحاربين في لبنان، وكان الهدف الأبرز للتدخل السوري من أجل إخضاع الفلسطينيين وحلفائهم، هو مخيم تل الزعتر ذو الموقع الاستراتيجي شرق العاصمة بيروت.
كان تل الزعتر خزانًا بشريًا مهمًا يضم الآلاف من المناضلين الفلسطينيين المنخرطين في الفصائل كافة، فحاصرته ميليشيا الكتائب اللبنانية المارونية بشكل خانق في صيف عام 1976، بمشاركة مباشرة وغير مباشرة للجيش السوري. وعلى مدار أكثر من 50 يوماً، تعرض الصامدون داخل الموقع للقصف المدفعي والصاروخي العشوائي، ومجاعة شديدة دفعت كثيرين إلى أكل أوراق الشجر، وإلى المخاطرة بحياتهم فراراً من المخيم؛ حيث تقتلهم الميليشيات على الهوية.
عجرت كل المحاولات العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية ولحلفائها عن كسر الحصار عن المخيم، الذي سقط يوم 12 أغسطس 1976، وارتكبت الميليشيات المارونية مذبحة مرعبة في ذلك اليوم، وتجاوزت أعداد من قُتلوا أو ماتوا جوعًا في تل الزعتر أربعة آلاف إنسان. وبالفعل تبخرت بسقوط تل الزعتر آمال الفلسطينيين والوطنيين اللبنانيين في حسم الحرب، وعاد التوازن الدموي بين المعسكرين، واستمرت فصول تلك الحرب الدامية إلى مطلع التسعينيات، وشهدت انحساراً ثم نهاية النفوذ الفلسطيني في لبنان، والهيمنة السورية عليه لقرابة ثلاثة عقود بشكل مباشر.
بعد قرابة العقد من كارثة تل الزعتر، كان الفلسطينيون على موعد مع حرب المخيمات الدامية (1985-1988)، التي تولّى كبرها ميليشيا حركة أمل الشيعية المدعومة من نظام الأسد. بعد خروج ياسر عرفات ومنظمة التحرير عام 1982 من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي الدموي، أراد نظام الأسد القضاء على أي نفوذٍ باقٍ لعرفات وللمنظمة في المخيمات، وليحكم حلفاء سوريا السيطرة على المشهد، ولذا فرضت أمل حصارًا لا إنسانيًا على كافة المخيمات الفلسطينية الرئيسية في بيروت وفي الجنوب اللبناني، ومن أبرزها مخيم برج البراجنة في بيروت، ومخيم الرشيدية في صور، وكان الهدف هو إجبار المقاتلين الفلسطينيين في المخيمات على ترك أسلحتهم والاستسلام.
في مخيم برج البراجنة في بيروت، استشهدت 25 امرأة على الأقل بالرصاص أثناء محاولتهن التسلل خارج المخيم لجلب الطعام لأبنائهن، وكذلك فقد خمسة أطفال على الأقل حياتهم جوعًا، وهلك العشرات من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة. رغم ذلك استمات المقاتلون الفلسطينيون في الدفاع عن مخيماتهم، مستفيدين مما كان يتسرب إليهم من إمدادات وأسلحة من بعض الوطنيين اللبنانيين من الناصريين في صيدا وغيرها، وحزب الله اللبناني (كان آنذاك على غير وفاق مع سوريا وأمل، وحدثت مواجهة عسكرية واسعة بينه وبينهم خلال عامي 1987 و1988)، ونجحوا أحياناً في شن هجمات مضادة مؤثرة، مثل احتلال قرية مغدوشة القريبة من صيدا أواخر عام 1986.
فقد الآلاف من الفلسطينيين أرواحهم جوعًا وقصفًا في تلك الحرب الدموية، وإزاء انسداد الأفق السياسي لها وصمود المقاتلين الفلسطينيين، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في غزة أواخر عام 1987، اضطرت حركة أمل -وسوريا قبلها بالطبع- إلى إيقاف حرب المخيمات عام 1988.
جدير بالذكر أنه على مدار الحرب اللبنانية، دُمّرت ثلاثة مخيمات فلسطينية من أصل 15. ولم تقتصر فصول حصار وتجويع المخيمات الفلسطينية من قبل النظام السوري وحلفائه على لبنان، فبعد اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، وتحولها بعد أشهر إلى حربٍ أهلية وإقليمية، تعرض مخيم اليرموك قرب دمشق للقصف وللحصار وللتجويع من قبل النظام السوري على مدار قرابة ست سنوات، استشهد فيها الآلاف من سكانه من الفلسطينيين والسوريين على حد سواء، وهُجّر عشرات الآلاف منهم، وتعرض المخيم لدمارٍ واسع، وتسللت إليه عناصر داعش، واستغل النظام هذا لتشديد الحصار والتجويع والقصف، حتى أُخضِعَ المخيم لسلطة النظام السوري بشكل تام في عام 2018.
«إننا في هذه الدراسة، نميل للاعتقاد بأن إسرائيل ومنذ عام 2004 أنجزت نظاماً علمياً شاملاً وخطراً، يعتمد أحدث النظريات في الهندسة البشرية وعلم نفس الجماعات بغية صهر الوعي الفلسطيني عبر تفكيك قيمه العليا».
- اقتباس للأسير الشهيد وليد نمر دقة في كتابه «صهر الوعي».
في كتابه المهم «صهر الوعي»، يشير الأسير الفلسطيني الراحل العظيم وليد دقة إلى أنماط عديدة خشنة وناعمة من سياسات الصدمة التي طبَّقها العدو الإسرائيلي ليعيد هندسة الشخصية الفلسطينية، بما يناسب مشروعه الاحتلالي الاستيطاني، ويصنع لها هوية تائهة غائمة الوعي النضالي.
لم تقتصر جهود العدو على تدجين السلطة الفلسطينية والآلاف من الشباب الفلسطيني الذين انضموا إلى أجهزتها الأمنية الغارقة في وحل التنسيق الأمني والاستخباري مع العدو، إنما امتدت إلى الآلاف من قادة وأبناء النضال الفلسطيني في المعتقلات الإسرائيلية، فعزلت الأسرى عن القيادات الوطنية، وعززت الانتماءات العشائرية والفصائلية لدى الأسرى، وفرقت بينهم في المعاملة، فالبعض تعرضوا للحبس الانفرادي شديد الوطأة، وآخرون سمح لهم بظروف أسر أقل حدة، مما صعب اشتراك الجميع في نضال مشترك داخل السجون، فمن نال بعض التساهيل في الطعام وفي غيره، أصبح يخشى فقدانها (هل يشبه هذا على المستوى الأكبر الفارق بين التعامل مع غزة المتمردة، والضفة الغربية الأكثر خضوعاً؟).
يروي وليد دقة أن حكومة شارون تعمدت إسناد إدارة السجون عام 2003 في خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية إلى المتطرف يعقوب جنوت، ومنحته ميزانية مفتوحة لاستخدام التكنولوجيا في قمع الأسرى والسيطرة على تفاصيل حياتهم، وأخذ يتعمد استفزاز الأسرى بالتفتيش العاري، ومصادرة حاجياتهم، وسوء المعاملة.. إلخ، لمواجهات داخل السجن تنهي بضربهم وتجويعهم والتنكيل بهم لكسر مقاومتهم، ويرى دقة أن السياسة الجديدة دفعت الأسرى دفعاً للإضراب المفتوح عن الطعام في أغسطس 2004، لاستخدامه في توجيه ضربة مؤثرة لوعي وإرادة الأسرى لا سيّما الشباب حديثي الاعتقال.
«إن القمع الحداثوي مقنع مخفي ويقدم على أنه استجابة لحقوق الإنسان، إنه قمع لا صورة له، ولا يمكن تحديده بمشهد. إنه مجموعة من مئات الإجراءات الصغيرة والمنفردة، وآلاف التفاصيل التي لا يمكن أن تدل مفردة على أنها أدوات للتعذيب».
- اقتباس للأسير الشهيد وليد نمر دقة في كتابه «صهر الوعي».
طبقت إدارة السجون خطة استفادت من عديد من العلوم الحديثة كعلوم النفس والاجتماع والهندسة الاجتماعية، مع تراكم خبرات القمع والتنكيل، فأبقوا الأنوار مضاءة طوال اليوم، مع شن حملات تفتيشية وتنكيلية يومية، وذلك لاستنزاف المضربين عصبياً، وسحبوا منهم كل حاجياتهم حتى الوسائد والأقلام، وصادروا السجائر والملح، وإثارة الإشاعات عبر مكبرات الصوت داخل السجن أن القائد الفلاني أو العلاني قد كسر الإضراب وترككم تتضورون جوعاً، وعُزل المضربون عن العالم وعن الأخبار حتى لا يستأنسوا بأشكال التضامن معهم خارج السجن.
نجح العدو تدريجياً في كسر إرادة كثير من المضربين، وفك الإضراب في سجن تلو الآخر، تكريساً لتفكيك الحركة الأسيرة وأنها ليست جسمًا واحدًا ينتظم الجميع في سلكه، فيمنحهم هذا قوة وتأثيراً ضاغطاً. ويشهد دقة أن فشل هذا الإضراب كان له آثار سلبية على الأسرى استدامت لسنوات.
خلال 16 عاماً من الحصار سبقت الحرب المدمرة الحالية ضد غزة، كان القطاع المكتظ بالسكان، الذين يعاني أكثرهم من ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة نتيجة الضغط السكاني ومحدودية الموارد، وحالة الاشتباك شبه المتواصلة مع العدو منذ اندلاع الانتفاضة الأولى في جباليا شمال قطاع غزة في ديسمبر 1987.
تعرض القطاع لحصارٍ طويل، يحمل في طياته تجويعًا مزمنًا بطيئًا يهدف إلى إيلام الحاضنة الشعبية للمقاومة، وكسر إرادة التحدي لديها تدريجياً، وخلق جيلٍ جديد في غزة يعاني من مختلف الاضطرابات والإعاقات النفسية والجسدية، من الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة، إلى فقر الدم وهشاشة العظام.
خلال تلك السنوات، وغير الأثر المدمر اقتصادياً وإنسانياً لمذابح الحروب والتصعيدات العسكرية ضد غزة كل بضعة أعوام، كان الحصار يقتل روح وصحة غزة ببطء، فالعدو كان يسمح للمواد الغذائية أن تصل إلى قطاع غزة عبر المعابر بشكل محسوب يراعي بالكاد الحد الأدنى من السعرات الحيوية لكل فرد، لاستدامة الحياة من دون حدوث مجاعة كاملة مفتوحة في القطاع، تسبب ضغطاً سياسياً كبيراً على الكيان الصهيوني، وتسبب انفجاراً بشرياً غيرَ محسوب (كان هذا قبل طوفان السابع من أكتوبر 2023، الذي غير المعادلات والحسابات والتوازنات السابقة عليه كافة).
وغزة محدودة المساحة، لا يمكن للنشاط الزراعي فيها أن يفي بمتطلباتها، وبالتالي فهي تعتمد على استيراد كثير من المواد الغذائية من الداخل، ومقدراتها الاقتصادية المحدودة تحت ضغطٍ سكاني واحتلالي كبير، وهذا سهل على العدو تنفيذ خطته في التجويع المزمن أو كما عبر عنه أحد الجنرالات الإسرائيليين بأن غزة ستضطر إلى تطبيق حمية غذائية دائمة.
أراد العدو عامداً أن ينشئ أطفال غزة مصابين بأمراض سوء التغذية كالأنيميا والهُزال والكساح.. إلخ، فلا يكونون في المستقبل خزاناً بشرياً من المقاتلين الأشداء ينضمون إلى فصائل المقاومة في القطاع، ويبدو من أحداث الطوفان وما بعدها، إن العدو رغم خبثه الشديد، وتطبيقه لأساليب غير مسبوقة في حصار غزة، لم ينجح بشكلٍ كامل في تحقيق مراده من التجويع الحداثي إن جاز التعبير، واضطر أن ينتقل إلى الإبادة والحصار القروسطي وما يستتبعه هذا من أثمان سياسية ودعائية مؤلمة بالنسبة لهذا الكيان الاستيطاني الاستثنائي.